عندما تختلف المشارب العقائدية يكون دوما من السهل استخدامها من قبل أي طرف خارجي . اذا جئنا بداية لمصطلح (أقليات) لرأينا أن هذا المصطلح انما تم استنباطه من فترة ليست بالطويلة من قبل اوروبا للتدخل في شؤون الدول الاسلامية بشكل خاص , يقول (ايلي خضور) في مقالة (الاثنية , الاقلية و الاكثرية في الشرق الأوسط) “إن كلمات (سيادة الشعب ) و ( القومية ) و( الأكثرية) و (الأقلية) هي مصطلحات غربية قد أقحمها المنظرون القوميون في أنظمة الحكم الناشئة في الدول العربية لتحقيق الاستقرار والتوازن السياسي, ولكنها لم تحقق نجاحاً في البيئة الشرقية التي كونت تجربة أخرى تعتمد على منظومة إدارية مغايرة من المصطلحات تقوم على (الشورى) و (الإجماع ) ونظام (الملة) و غيرها من المفاهيم التي شكلت في مجملها نظاماً تعددياً يختلف تماماً عن النمط الغربي” (1).
فلم يكن صعبا على الأقليات التي بالرغم من عيشها في كنف عدل الدولة الاسلامية (والتي حتى عندما تظلم تظلم رعايها المسلمين قبل المسيحيين مثلما فعل احمد باشا الجزار (2) ) ان تقف كل موقف الا الموقف مع الدولة الاسلامية الحاضنة لها. سواء كان ذلك مع التتار او الصليبيين او الصفويين او الانكليز و الفرنساويين و الروس و كل عنصر اجنبي على البلاد .
ان تصرفا كهذا هو مفهوم بسبب المعاداة الفكرية بين تلك الديانات و الاسلام والتي لم تشهد تسامحا الا بين ابناء الديانات السماوية وفي حالات ادراك الفئة الاخيرة بالعيش ضمن الحقوق التي ضمنها لها الاسلام . فمسألة ( الولاء ) لم تكن يوما تتعلق بأرض معينة او عرقية معينة بقدر ما كانت تتعلق بفكرة ما و يشتد الولاء اكثر عندما يتعلق بالدين خاصة بين ابناء الاقليات التي تحابي ابناء دينها ولو كانوا من خارج البلد. و الحالات الفردية التي شهدتها البلاد الاسلامية لأبناء الاقليات الذين وقفوا مع الدولة لا يمكن تسميتها حالة عامة بل هي حالة شاذة لعدم وجود جيوش من نفس الطائفة تقاتلتا ضد بعضهما في ترجمة واضحة لحقيقة الولاء لدينها اكثر من أي شيء آخر .
نستعرض بصورة خاطفة بعض ابرز الامثلة على تحالف الاقليات مع كل طرف خارجي في آخر قرنين من الزمان ونبدأها بالدروز.
كانت بريطانيا قد اعلنت حمايتها لمصالح الدروز عام 1841 (3) في مستهل عام 1850 رفض الدروز دفع الضريبة للدولة العثمانية , وذهب والي دمشق محمد باشا القبرصي لاستخراج الضريبة منهم و لكنهم هزموه في معركة استمرت بضعة ساعات و استولوا على مقدرات الجنود و اسلحتهم جميعا و توسط القنصل البريطاني (المستر وود) لدى الدروز من اجل ارجاع المسلوبات فقام الدروز بإرجاعها (4) , الامر الذي شجع الدروز على التمادي , فقاموا في عام 1851 بالهجوم على قريتي (الكرك) و (ام ولد) و ذبح سكانهما عن بكرة ابيهم ,وعندما حاولت الدولة العثمانية القصاص من الاشقياء تمرد الدروز و ارسلوا للقنصل البريطاني فذهب و حل المسألة سلميا بأن يدفع الدروز الدية على التقسيط (5) (ولا احد يعلم من أين لهم بالمال)وبالرغم من العلاقة الطيبة بين الدروز و البريطانيين الا ان هذا لم يمنع الدولة العثمانية في استمالتهم بدلا من طردهم على استقوائهم بالأجنبي ,فقد ورد في احد رسائل الصدر الأعظم الى والي دمشق مدحت باشا “ان حركات الدروز توجب الجزاء واذا لم يجازوا وتركوا انتج تركهم احتقار الحكومة و ان غرضنا الوحيد هو تحبيب ادارة الدولة للدروز والموارنة و استعمال القوة لا يوصل لتلك النتيجة و نحبذ الاصلاح بين المتخاصمين “ (6).
بالرجوع للوراء لحوالي عام 1710م , لم يكن الدروز الا اقلية في جبل حوران ,فبعد معركة عين دارة التي حدثت بين عوائل درزية بدأ الدروز يهاجرون من منطقة الشوف و وادي التيم في لبنان نحو حوران , وقد سعد قدماء الدروز في المنطقة بمجيء اخوتهم في الدين واخذوا يجتمعون تحت امارة آل حمدان و آل الأطرش و اخذوا يناوشون المسلمين و النصارى من حضر و اهل بادية حتى استقلوا بالجبل تماما (7) وفي الفتنة الكبرى عام 1860م والتي قتل فيها ما يقارب 11 الف مسيحي من مختلف الطوائف ,كان للدروز دور كبير فيها حيث كانوا دائما ما يناوشون المسيحيين منذ فترة ليست بعيدة , و عندها انتفضت الدول الاوربية الحامية للمسيحيين على هذه المقتلة العظيمة , فقد طالبت الدول الاوربية (النمسا و فرنسا و بريطانيا و روسيا) بمعاقبة الجناة .فما كان من فؤاد باشا الا ان قام بقتل 111 مسلما رشقا بالرصاص و شنق 56 و نفي 145 و حكم بالأشغال الشاقة على 186 و حكم غيابيا بالقتل على 183 , وكان من بين الذين قتلوا 18 شخصية من كبار ووجاهة المسلمين , بينما الدروز عندما اراد فؤاد باشا محاكمتهم لم يشهد أي منهم على الآخر و من اصل 500 شخص لم يستطع الحكم بالقتل الا على 57 منهم فقط ! (8). ويصف الكاتب محمد كرد علي الأمر بأن الدروز كانوا اكثر إيغالا في الدم من المسلمين بما جاءهم من نجدات من ابناء معتقدهم في حوران (9) . وفي سنة 1895 هجم الدروز على قرية الحراك و قتلوا أكثر أهلها و هدموا جامعها الحصين و نهبوها مع قرى المليحة الغربية و الشرقية و حريك و دير السلط و كحيل , فأرسلت عليهم الدولة سنة 1896 حملة بقيادة أدهم باشا و بعد مواقع متعددة دخل السويداء, وقبضت الدولة على 600 منهم , 200 منهم رؤوساء العصابات لكنها اطلقت سراحهم واعطتهم مالا علهم يرتدون عن افعالهم , لكنهم اشتروا بالمال سلاحا حاربوا به الدولة (10).
ولم يتوقف الامر عند هذا الحد ,فقد قامت الدولة عام 1901 ببناء 25 مسجدا في مناطق قصبات الجبل , عاهرة , صلخد و السويداء و قامت ببناء المدارس لتعليم الدروز و ارجاعهم للاسلام الحنيف ,فكان الدروز في البداية يتظاهرون بالموافقة ثم لا يلبثوا ان يتمردوا مرة اخرى (11)
وفي عهد الانتداب الفرنسي كان الانقسام بين الدروز , بين زعماء العشائر و الزعماء الدينيين حيث ان الأولين طالبوا بالانتداب البريطاني تحت حكم فيصل الهاشمي و الآخرين طالبوا بالانتداب الفرنسي , وكان قد تم تعيين سليم الاطرش (الذي كان يخدم سابقا قائدا في الجيش العثماني) رئيسا على دويلة الدروز عام 1921 (12). وكان سلطان باشا الاطرش في السابق قد بعث الى ابن عمه سليم رسالة يطالبه فيها بالانضمام الى الانتداب البريطاني و يكيل بالشتائم للدولة العثمانية و يمدح كثيرا ببريطانيا (13), وكره سلطان الاطرش للدولة العثمانية ربما يأتي من حقيقة ان والده قد أعدم على يد الدولة العثمانية لاشتراكه في عصابات نهب هو و مئات الدروز (14)الأمر الذي قد يشرح محاولة (أدهم خنجر) اغتيال الجنرال غورو , ومحاولة الاخير اعتقاله بشكل فج في قرية (القريّة) مسقط رأس سلطان الاطرش و بالتالي استغلالها كحجة للثورة على الفرنسيين(15) , وبالرغم من اتخاذ غورو حرسا شخصيين من الدروز له وكانت تسانده عائلات مثل الأطرش و حمدان التي انقسمت كما ذكرنا لاحقا ما بين محب للانتداب الفرنسي و محب للانتداب البريطاني ,فإن ذلك يشرحه بشير سرور زين العابدين في كتاب (الجيش و السياسة في سوريا) قائلا "لم تحمل ثورة سلطان الاطرش ذلك البعد الوطني او القومي كما يعتقد البعض ,بل كان الدافع الأساسي له هو الخلاف المستحكم بين الحاكم الفرنسي (كارتييه) و زعماء الجبل الذين ارادوا استبداله بزعيم آخر وهو (رينو) , وقد حاول الزعماء الوطنيون في دمشق التنسيق مع سلطان الأطرش , لكنه خذلهم بعد معركة المزرعة عندما امتنع عن التقدم بقواته نحو دمشق بالرغم من أن الطريق كان مفتوحا امامه و اختار التفاوض مع الفرنسيين على دستور خاص للجبل و تعيين حاكم فرنسي يرضى عنه الدروز و عدم محاسبة الدروز على عصيانهم وقد تكلم عن هذه الواقعة عبد الرحمن الشهبندر بمرارة في مذكراته وذكر الأسباب الحقيقية لثورة الدروز بقوله" ضاق بنو معروف ذرعاً بحاكمهم وسدت سبل النجاة من أعماله في وجوههم فأخذوا يفكرون والحاجة تفتح من أذهانهم حتى أدركوا أن لا مناص لهم من الثورة " وكان شعار الثورة عندما اندلعت في ٢١ يوليو ١٩٢٥ " فليسقط كاربيه الظالم وليحيا رينو العادل" (16).
وقد استمرت دولة الدروز حتى عام 1936م بعد انضمام كلتا الدويلتين العلوية و الدرزية لسوريا بعد ازدياد نفقاتهما على الحكومة الفرنسية .
1- ايلي خضور (1988) مقالة بعنوان (الاثنية , الاقلية و الاكثرية في الشرق الاوسط ) تحقيق ميلتون و رابينوفتش , لندن ص 25-31 .
2- خطط الشام : محمد كرد علي , المجلد الثالث ص 18 , 24
3- مأساة سوريا بين الحكم الباطني و الارهاب العسكري : ص 245
4- خطط الشام : محمد كرد علي , المجلد الثالث ص 79
5- المصدر السابق : ص 102
6- تاريخ سوريا في العصر الحديث : نادر العطار ج1 ص 229
7- مأساة سوريا بين الحكم الباطني و الارهاب العسكري : ص 246
8- خطط الشام : ج 3 ص 90
9- المصدر السابق ص 97
10- المصدر السابق ص 110 – 111
11- الادارة العثمانية في ولاية سوريا : عبدالعزيز محمد عوض ص 301
12- قراءة جديدة في تاريخ سوريا الحديث : جعفر الدندشي ص 81
13- تطور الحركة الوطنية في سوريا : ص 264 – 265
14- مأساة سوريا بين الحكم الباطني و الارهاب العسكري : ص 246
15- الادارة العثمانية في ولاية سوريا : عبدالعزيز محمد عوض ص 301
16- الجيش و السياسة في سوريا : بشير سرور زين العابدين ص 37