خلال زیارته إلى
اللاذقیة
سنة 1960 بمناسبة
العید
الثاني
للوحدة
خطب عبد الناصر من
شرفة
نادي
الضباط
قائلا "إن الذین یتصدون
الآن
لمسیرة
الوحدة
من
أصحاب
الشعارات
الفارغة ویضعون العراقیل
في
طریقھا،
سندوسھم
بالجزم!
" (1) لم يعد رئيس الجمهورية العربية المتحدة يتحمل ثمرة اخطاء أناس وافق على
أن يكون رئيسهم , لكن ما الذي جعله يتلفظ بكلمات كهذه امام جماهيره؟
كتب (أندرو راثميل) يتكلم عن الوحدة العربية
بقيادة عبدالناصر "إن الدعوة للوحدة العربية بقيادة ناصر كانت على العموم
اكثر انتشارا خارج مصر مما كانت عليه داخلها
, وفي سوريا ايضا تكشف واقع الوحدة على أنه أقل سحرا من الحلم ,فالجمهورية
العربية المتحدة ما كانت شراكة بين فريقين متكافئين وإنما كانت بمثابة ابتلاع مصري
كامل لسوريا"(2) . لم تكن الوحدة في جوهرها سليمة البناء ,فقد كان العامل
الوحيد الذي بنيت عليه هو (جمال عبدالناصر) وحده و ليس أي أمر آخر , وسرعان ما
تبين أن سياسات هذا الاخير قد أضرت بشكل كبير بالسوريين . على الصعيد الاقتصادي كانت
القرارات السيئة تصدر بشكل مضطرد , فقد شجعت تلك القرارات العديد من التجار الى الخروج
من سوريا هربا من قرارات التأميم , فاصبح تهريب الأموال و البضائع الى لبنان التي
اصبحت متنفس سوريا الاقتصادي امرا اعتياديا , بل أن الضباط و المعلمين تحولوا الى
(تجار شنط) يأتون الى سوريا في اجازة لبضعة أيام يملؤون الشنط بكل ثمين غير متوفر
في مصر و يعودون بها هناك ليبيعوها او يأخذوها لأنفسهم ,حتى وصل الامر باستخدام الطائرات العسكرية للتهريب (3) و قد اخذت مصر 3
غواصات روسية اشترتها سوريا قبل الوحدة و طالبت سوريا بدفع نفقات الاصلاح ايضا ,
بينما في الكلية الحربية بحمص تصرف عميدها المصري (محمد فوزي) بشكل انفرادي فج
فيها حتى كان تسمى ب(عزبة محمد فوزي) (4), ولم يساعد القحط الذي اصاب سوريا ثلاث
سنين عجاف في تخفيف وطأة تلك المشاكل , ولكن الضربة القاصمة جاءت مع قانون الإصلاح
الزراعي و تأميم القطاع الصناعي اواخر سنة 1960 (قبل بضعة أشهر من الانفصال) فلم
يبق هناك أمل لدى التجار و المزارعين في البقاء تحت هذا الوضع .
من جهة أخرى , كان أول المتذمرين من الوحدة هم
البعثيين و على رأسهم (أكرم الحوراني) و تبعه (صلاح البيطار) و (ميشيل عفلق) الذي
أخذ عبدالناصر يسخر منه قائلا بأنه يتصرف كأباطرة اليونان المجانين وبأنه قبرصي
مشكوك في انتمائه العربي (5) , فقد ضاق
عبدالناصر ذرعا بالبعثيين الذين كانت مطالبهم أعلى مما يستحقون حتى قال عنهم
عبدالناصر نفسه "انا شفت من البعث اللي محدش شافه" , و كان على حق فالبعثيون
الذين كانوا من اوائل المطالبين بالوحدة كانت لديهم أطماع اخرى , يقول العقيد
(كمال الدين حسين) أحد افراد حركة (الضباط الاحرار) "قلت لعبدالناصر إني لا
أثق فيهم.. و أرى أن البعثيين المسؤولين عن الأمر في سوريا حاليا عملاء و ميشيل
عفلق على رأسهم ,هؤلاء أكبر عملاء يعملون ضد الاسلام و اعتقادي أن الوحدة "مش
حتنفع" إنما يريدون الاستناد إلينا فترة من الزمن حتى تقوى حركتهم ثم
ينفصلون"(6) و لم يخطئ كمال الدين في توقعاته , ففي بداية الوحدة شعر
البعثيون باليأس بعد أن شتتهم عبدالناصر و جمد زعاماتهم , فقد أمعن في اقصائهم عن
مناطق نفوذهم بتعيينهم في مناصب وزارية بعيدة عن ماراكز القوى التي كانوا يتمتعون
بها داخل المؤسسة العسكرية من أمثال (اكرم الديري) و (امين النفوري) و (احمد
عبدالكريم) و (جمال الصوفي) و غيرهم وكان
قد نقل ضباطا اخرين مثلهم من سوريا الى مصر , و وضع بدلا منهم ضباطا دمشقيين
محايدين , فالدمشقيين كانوا اقل الناس تأثرا بالافكار البعثية , فأحس هؤلاء بالسخط
حتى لجأوا الى (أكرم الحوراني) بصفته نائب ناصر فجاء إليه شاكيا له من الوضع (7) و
لكن حوراني لم يسع فقط لتعديل وضع اتباعه , بل سعى أيضا لتحذير عبدالناصر من
الدمشقيين ووصفهم بأبناء التجار ذوي الميول الاخوانية (8) و تضايق من أنه لم يجد
اكتراث لدى عبدالناصر , يقول المؤرخ (بشير زين العابدين) " ولعل الحوراني لم
يكن يدرك بعد
بأنه عين في
منصب نائب رئيس
الجمهورية المتحدة
بصفته ممثلاً للشعب
السوري وليس بصفته
رئيساً لحزب اشتراكي, فكان من واجبه
أن يمثل شعبه لا
أن يمثل مصالح
حزبه. ولعل العصبية
الحزبية لدى الحوراني
قد أنسته بأنه من
المنافي لصفته الدستورية
أن يقوم نائب
رئيس الجمهورية بالدسيسة
لصالح فئة من الشعب
السوري ضد فئة
أخرى بدلاً من
أن يتصرف بمسؤولية
تتناسب مع منصبه الكبير" و يكمل قائلا " والأغرب
من ذلك أن
يتوقع الحوراني من
عبد الناصر الاكتراث
لكلامه ضد
أبناء الطبقة التجارية وذوو
الميول الإخوانية
لصالح البعثيين, وهو
نمط من العبث
السياسي الذي دأب على
ممارسته طوال نشاطه
السياسي منذ انقلاب
حسني الزعيم. " (9) , لقد شعر البعثيون
و على رأسهم الحوراني بخطيئتهم الفادحة , فلأول مرة يجد (ثعلب الانقلابات) نفسه
عاجزا عن تدبير انقلاب في الجمهورية المتحدة , فكان البعثيون العبثيين من اوائل من طالبوا
بالانفصال و تجسّد ذلك باستقالة جميع الزعماء البعثيين مثل (الحوراني) و
(البيطار)و(عفلق) وتلاهم تلامذتهم مثل (مصطفى حمدون) و (عبدالغني قنوت) (10) و لكن
كل كذلك كان يتم على السطح , بينما تحت ذلك تحرك الباطنيون ليؤسسوا (اللجنة
العسكرية السرية) في صيف 1959 و التي تألفت من (حافظ الوحش- محمد عمران – صلاح
جديد) نصيريين و (عبدالكريم الجندي – احمد المير) اسماعيليان, ولاحقا كان لكل اعضاء هذه اللجنة دورا كبيرا في
فترة ما بعد انقلاب 1963 .
من اليمين لليسار : محمد عمران - حافظ الوحش - صلاح جديد |
كان ناصر ملما بدور الاقليات
في الانقلابات السابقة بحكم تقارير السفارة المصرية في دمشق التي قويت علاقاتها مع
سوريا في الخمسينات , و قد فضل ناصر ضباط موالين للشيشكلي على ابناء الاقليات حذرا
منهم , فنقلهم الى القاهرة ليبقوا تحت عينه حتى ان حافظ وقتها كان رئيس المطار
العسكري في القاهرة . ويشير عبدالكريم زهرالدين الضابط الدرزي في مذكراته أن
الفريق (جمال فيصل) تم استهلاكه تماما وعندما طرح اسم (جادو عز الدين ) بدلا منه
تم رفضه لكونه درزيا , و يروي المؤرخ الالماني (بيتر جوسبر) أن النصيريين كانوا
يعارضون بشدة الوحدة مع مصر , فالنصيريين كانوا أقلية لا تتجاوز 8% في سوريا و
اتحادهم مع مصر سيؤدي لتذويبهم في محيط مسلم سني اكبر لا يعترف بخصوصياتهم التي
تعودوا عليها , و يذكر المؤرخ السوري(محمد زين العابدين) أن حل حزب البعث كان له أثر كبير في اثارة سخط
النصيريين حيث كان عدد كبير من قياداته من طائفتهم امثال (وهيب الغانم) و (زكي
الارسوزي) و يعتقد المؤرخ ان سبب سخط
الاقليات الطائفية على القيادات التقليدية مثل الحوراني وعفلق و البيطار هي
اتخاذهم لهذه الخطوة دون استشارتهم فيها
(11) وبالرغم من دعم الاردن للدروز و النصيريين بالاسلحة (12) الا ان ذلك
لم يؤثر كثيرا في سوريا بسبب قوة مخابرات السرّاج التي تغلغلت في الاردن و لبنان .
هذا الاخير كان قد اخذ يتصرف كما يشاء في الاقليم الشمالي(سوريا) مما ادى لكثرة
الشكايات ضده حتى أنه كان يعوّق عمل المخابرات المصرية , حتى جاءه المشير عبدالحكيم عامر , و يعلق
(راثميل) على ما فعله ناصر قائلا (إن تعيين عامر كان لتقييد الدور الطليق الذي كان
يلعبه السراج , ولو تقييدا محدودا , ولكنه على الرغم من ذلك بقي موضع تقدير رفيع
من ناصر . لكن رد السرّاج على السخط منه كان بمزيد من القمع" (13) .و كان قد تم ارسال
عامر الى سوريا في خريف عام 1959 (قبل الانفصال ببضعة شهور) , يصفه (عبدالكريم
النحلاوي) بأنه شخص طيب القلب و بريء حمّل اكثر من طاقته (14) .
بعد ازدياد السخط و التململ
من التغوّل المصري في البلاد , بدأت بوادر الانقلاب لدى كل من الضابطين (احمد
حنيدي) و(طعمة العودةالله) حيث كانا يحضران لانقلاب بقيادة (عبدالله شيخ عطية) وقد
علم بها النحلاوي الذي كان مدير شؤون الضباط (وكان السوري الوحيد في تلك الشعبة) و
أفاد النحلاوي بأن قائد الجيش اللواء (احمد علوي) كان على علم بها , فقام بتكثيف
تواجد الضباط المصريين على حساب السوريين منعا لأي حركة مفاجئة , لكن النحلاوي كان
قد اخترق اقوى لواءين يعتمد عليهما عبدالناصر وهما (اللواء 70 بقيادة الضابط
المصري كمال حسين و اللواء 72 بقيادة السوري الناصري جاسم علوان) (15), و في
فبراير/شباط من عام 1961 طلب النحلاوي من العقيد (عبدالغني دهمان) المجيء مع
مجموعة من الضباط الى مقر القيادة في الرابعة صباحا , فجاء ومعه الضباط (موفق
عصاصة – و زهير عقيل – ونورالله حاج ابراهيم) الذين حسب قوله تفاجئوا بما قام به
لكنهم وافقوا جميعا على الانضمام اليه . ذهب العقيد (عبدالكريم النحلاوي) الى
المشير عامر الذي كان في مقر القيادة و سأله الاخير قائلا (الا توجد هناك طريقة
اخرى غير هذه؟ ) –يقصد الانقلاب- فأجابه النحلاوي بأن الامر كان يمكن تفاديه منذ
البداية لو انهم فقط اتخذوا اجراءات حيال ما كان يطلعهم عليه من اوضاع سيئة , ووضع
النحلاوي مطالبه التي تلخصت في ابعاد قادة الجيش المصريين ((احمد علوي , احمد زكي
, سعيد الماح ,قدري نافع و أنور القاضي) وذلك بسبب سوء ادارتهم و طالب إنشاء قيادة
مشتركة بين الجيشين) . سارت حركة النحلاوي بسلاسة
دون أي عوائق حقيقية وقد استجابت معظم القطع العسكرية لها ما عدا (حلب و
حمص و القطيفة) .
علم عبدالناصر في الساعة 8
صباحا بالانباء فاستشاط غضبا ترجمه في هجوم اذاعي كبير على الحركة و طلب من
اللواءين 70 و 72 ان يتحركا لكنهما كانا مخترقين و لم يمكنه التحكم بهما , فأراد
ناصر ان يستقل طائرة نحو حلب او اللاذقية لكن (عبداللطيف البغدادي) منعه بقوله أن
الحركة تحظى بشعبية كبيرة , فأقلع عبدالناصر عن السفر . لاحقا ابلغ النحلاوي
طلباته للمشير عامر فوافق عليها المشير واصدر البيان رقم 9 الذي نادى بعودة المياه
لمجاريها , فسبب هذا الامر ارباكا شديدا بين الضباط الذين راهنوا على جلاء
الناصريين كلية من البلد وخافوا من المحاسبة , فظهرت مظاهرات تندد بناصر و اخرى
تؤيده , لكن الامر الاكثر ارباكا كان يحصل
في مقر القيادة حيث طلب النحلاوي من المشير عامر ان يوقع على البيان رقم 10
النهائي الذي يقضي بإنهاء الامور فرفض هذا الاخير , و كانت مفاجأة للنحلاوي من هذا
التغير الغريب في موقف المشير , وعلم لاحقا ان المشير قد تشاور مع ناصر و طالبه
هذا الاخير بعدم الاستجابة للمطالب و المماطلة , وبالرغم من ان عامر حاول اقناعه
بالعدول عن هذا القرار الا ان عبدالناصر أصر عليه . فطلب النحلاوي من الفريق(جمال
فيصل) ان يوقع بدلا عن عامر لكنه جاوبه قائلا ( انا مالي علاقة) فصرخ به النحلاوي
(كيف ليس لك علاقة وانت من كتب البيان؟؟) , وحاول النحلاوي ان يقنع أي منهما
بالتوقيع على البيان فلم يوافقا , ما اضطر النحلاوي لاعلان البيان رقم 10 الذي نقض
البيان 9 فهدأت الامور نسبيا بين الضباط السوريين . (16) و هكذا في التاسع و
العشرين من سبتمبر/ايلول 1961 (بعد يوم من الانقلاب )اعلن رسميا عن تشكيل حكومة
سورية بقيادة (مأمون الكزبري) لقيادة الجمهورية العربية السورية .