الأحد، 3 مارس 2013

سوريا ما بعد المعاهدة 1936-1939


عاد  الوفد السوري برئاسة (هاشم الأتاسي) من باريس في 27/9/1936 بعد  توقيع المعاهدة مع وزارة الخارجية الفرنسية , التي وصفها فارس الخوري ب(معجزة القرن العشرين) ,فأعيد العمل بدستور 1928 , والذي كانت الكتلة الوطنية قد رفضته وعارضته بشدة في ذلك الوقت, فعادت الان للمشاركة في الانتخابات و العمل تحت هذا الدستور بعد أن أصبحت في سدة الحكم (الصوري) , ففي خلال اقل من شهرين تم إعلان في 21/12/1936 (هاشم الاتاسي) رئيسا لسوريا و (جميل مردم) رئيسا للحكومة و (فارس الخوري) رئيس مجلس النواب و (سعدالله الجابري) وزيرا للخارجية و الداخلية و (شكري القوتلي) وزيرا للدفاع و المالية .(1) ولم تعجب المعاهدة فئة من المواطنين الذين شكلوا حزب معارضة لها , وتم اصدار عفو عن المنفيين , فعاد الشيخ كامل القصاب و الدكتور عبدالرحمن الشهبندر و حسن الحكيم و نبيه العظمة و فوزي القاوقجي وإحسان الجابري وغيرهم.(2)و لكن كانت لعودة الشهبندر تداعيات أثرت على المشهد السوري في تلك الفترة .

عاد الشهبندر في 14/5/1937 بعد ان فر منذ عام 1925 وهو يتنقل ما بين الدول الواقعة تحت الانتداب البريطاني (مصر-العراق- الاردن) فقد كانت علاقته طيبة مع البريطانيين على عكس الفرنسيين , وعند عودته استقبلته العديد من الوفود الممثلة لجميع الاحزاب , وفي دمشق رفعت لوحات كتب عليها (العروبة فوق الجميع) (عاش المجاهدون زعماء العروبة ) وغيرها من الشعارات القومية التي أشرف عليها رؤساء الاحزاب , وكان السكان وقتذاك يميلون بعواطفهم نحو أي اتجاه كما سنرى بعد قليل في الخلاف بين الشهبندر و الكتلة .
كان الشهبندر شخصية ديماغوجية ,فهو لا يرضى بأن لا يكون في الصدارة و كان شخصيته كرازمتيه تستطيع تجميع الناس سواء على حق او باطل فهو خلال 6 اسابيع من عودته القى ما يزيد عن 90 خطابا كلها لا تتفق فيما بينها موضوعا و مضمونا .في خطاب استقباله في اول يوم عودته لسوريا ( إنا عدنا لندرس القضية مع اخواننا موضوعيا بدون أي شوائب حزبية لأن جنة الوطن واسعة مفتوحة لكل الأبواب) و سمّى نفسه في خطابه ب(الشهيد الحي). كان الواضح من خطاب الشهبندر أنه يرغب بأن يكون جزءا من الحكومة ان لم يكن رئيسا للبلاد وهو الذي رفع شعار (خير لنا ان نغرف مجتمعين على ان نعوم متفرقين)  , فلم ترتح الكتلة الوطنية لخطابه حيث أن الكتلة بسبب شعبيتها و تصدرها للمشهد تعتقد بأن (الكتلة) هي (الشعب) و (الشعب) هو (الكتلة) وأن من يعارضها يعارض ارادة الاستقلال فأخذت في اتهام معارضيها بالتفريط بوحدة البلاد و كان وضع الكتلة قد أخذ يضعف بسبب العديد من الاخفاقات و المشاكل التي لم تستطع ان تحلها فيما بينها عوضا عن ان تحل مشاكل غيرها ,بدءا من المعاهدة التي خيبت الآمال التي بالرغم من الاستقبال الشعبي الواسع لها إلا ان رأي الناس تبدل بسرعة فأخذوا يلتفون أكثر حول الشهبندر , فسارعت الكتلة عبر عضوها (جميل مردم)  بالدفاع عن المعاهدة وتبيين محاسنها بينما كان الشهبندر يقوم بالعكس , وأخذت الاتهامات تتطاير بين الاثنين فالأول يصف الثاني ب(الإضرار بالقضية الوطنية) و (النفاق)  و الاخر يتهمه(بأنه يحاول طلي سموم المعاهدة بالعسل لتبليعها للشعب) و (حكومة الرعاع) و يلمزه مرة بخطف محافظ الجزيرة وعدم معاقبة الخاطفين ومرة بالحزبية المتعصبة (3).
عبدالرحمن الشهبندر

في تلك الفترة الحرجة و بينما الاحزاب تتقاتل فيما بينها , ظهر للعلن اتفاق جنيف مقر عصبة الأمم حول سلخ (لواء الاسكندرون) من سوريا بإتفاق فرنسي-تركي , الأمر الذي يوضح للأسف مدى الضعف و الهزال الذي كانت عليه حكومة يتم اتخاذ قرارات بشأن بلادها دون أي اعتبار لها . فقد كانت فرنسا تشعر بحاجتها للأتراك في مواجهة الخطر النازي المتصاعد خاصة وان طبول الحرب اخذت تعلو أكثر ,فاضطربت البلاد بالمظاهرات المحتجة على هذا القرار و اتجه وفد برئاسة (جميل مردم) و (سعدالله الجابري) لباريس و كان مردم لا يزال يأمل و يستجدي عطف فرنسا في تغيير رأيها حول الاتفاق و عند وصولهم لتركيا تقابل جميل مردم مع وزير الخارجية التركي (جلال بايار) و أصدر (مصطفى كمال) رئيس تركيا بلاغا حول مجيء الوفد لم يتطرق فيه للواء و تحدث عن الجو الودي المفعم بالصداقة الذي دارت تحته المحادثات , فاستنتج السوريون أن الحكومة وافقت على قرار جنيف بسلخ اللواء وربما كان ما أثبت شكوكهم تصريح الجابري وزير الخارجية السوري وقتها عندما قال (إن الحكومة قد قامت بكل ما يترتب عليها وعملت ما يجب عمله)  . لكن في دمشق قام (شكري القوتلي)  بالتأكيد للناس عندما تجمعوا محتجين امام مبنى الحكومة بعدم تنازلهم عن الاسكندرون مهما كانت التضحيات , واستغل (عبدالرحمن الشهبندر) هذه الفرصة فأخذ بزيادة انتقاد الحكومة التي بادلته الانتقاد باتهامه بالتآمر مع تاج الدين الحسني على لسان رئيسها (جميل مردم ), والذي وقع ملاحق اضافية فوق المعاهدة تزيد اكثر من قيود البلاد بي في باريس , فاستقال القوتلي وزير المالية و الدفاع بسبب فعل مردم الذي تولى الوزارة بالوكالة وقتها و تم تعيين فائز الخوري بدلا منه (4) و اشتد الصراع اكثر بين الكتلة و معارضيها حتى وصل بها الامر الى ان تعتقل و تضرب و تلغي اجتماعات من يخالفها , و رفض (هاشم الاتاسي) ذهاب مردم مرة ثالثة الى باريس الا بعد ان اخذ وعدا منه بأن لا يقوم بتوقيع أي معاهدات أخرى دون العودة للرئاسة و الحكومة , ولكن مردم كذب و قام بتوقيع معاهدة جديدة تضع المزيد من الضغوط على سوريا ما أغضب الاتاسي بشدة لكنه بالرغم من ذلك أبقى مردم رئيسا للوزارة  الذي كلما اشتد نقد المعارضين له اشتد هو عليهم اعتقالا و تضييقا و حاول الأتاسي نصحه بالتخفيف من تشدده إلا أن ذلك لم يؤدي الى نتيجة برغم كون الأتاسي اعلى سلطة من مردم فلم يقم بإقالته او تغيير تعيينه . و انضم (سعد الله الجابري) للجوقة فأخذ يهاجم كل من يعارض (الكتلة الوطنية) ,فخطب في الناس في حلب عند عودته من تركيا قائلا "تأكدوا أنه لا توجد في سوريا أحزاب غير الكتلة الوطنية , حزب واحد هو الأمة بأسرها هو الكتلة الوطنية , إن مصلحة الوطن تقتضي مقاومة الحزبية , ونحن لا نقاوم بالدرك و الشرطة ولكن نقاوم بكم أنتم , الخائن قاطعوه و ارجموه , وكونوا يدا واحدة "(5) , وبينما الخطب تتطاير بين الرموز السورية , كانت القوافل التركية تفد الى اللواء واحدة تلو الأخرى.
اركان الكتلة الوطنية في المنتصف سعدالله الجابري وزير الخارجية و الداخلية , علي يمينه رئيس سوريا هاشم الأتاسي - فارس الخوري رئيس مجلس النواب - جميل مردم رئيس الوزراء

كان الشعب السوري وقتها يميل تقريبا مع أي اتجاه , حيث الذين كانوا يصفقون للشهبندر تارة , كانوا يصفقون لمردم و الجابري تارة أخرى. و في اثناء ذلك تمت اقالة السفير الفرنسي(تشارلز دو مارتيل) بحجة أن المعاهدة يجب عرضها و تصديقها من قبل مجلس النواب و من ثم مجلس الشيوخ الفرنسي , وان الاوضاع ستبقى على ما هي عليه , فكانت الكتلة الوطنية و اعضاؤها ككرة صوف في أيدي الفرنسيين الذين اخذوا يلعبون بهم ذات اليمين و ذات الشمال . فبعد ان رضيت الكتلة الوطنية بالدستور الذي اعترضت عليه بشدة , اصبحت تحارب في سبيل تصديق المعاهدة المقيدة و تم تعيين المفوض (غابرييل بيو) (1938-1940) بصفة مفوض هذه المرة لا سفير , والذي عند مجيئه لدمشق لم يتم الاحتفال به كعادة الاحتفال بالمفوضين الاخرين فكتم المفوض هذا الأمر في نفسه , لكنه حصل على احتفاله في السويداء حيث اقيم له استقبال حافل , وتم في هذا الاحتفال انزال العلم الدستوري إيذانا بانفصال جبل الدروز عن سوريا بعد ان كان منضما له شكلا فقط (6) و لكن الناس لم يهتموا كثيرا للأمر فقد كانت قصة المعاهدة و لواء الاسكندرون شغلهم الشاغل , والتلاسن و التقاذف بين السياسيين قد بلغ ذروته , و استطاع الشهبندر بعد ان ضعفت الكتلة بسبب سياستها القائمة على رفض أي مفاوضة تعترف بها كحزب أوحد في البلاد و عجزها عن اتخاذ موقف اكثر جدية و صلابة بشأن الاسكندرون , ما ادى لاستقالتها في شباط/فبراير من عام 1939 و تأليف حكومة جديدة قام هاشم الأتاسي بتأليفها تحت رئاسة أحد اقطاب المعارضة (حسن الحكيم) لامتصاص نقمتها , لكن الاتاسي و حكومته استقالا بعد 5 شهور في تموز/يوليو و الغي منصب رئيس الجمهورية و بدأت سوريا تدخل منحنى جديدا في تاريخها بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية و ضعف قبضة الفرنسيين عليهم كان أولى خطواتها نحو الاستقلال .
من اليمين وزير العدل نسيب البكري - وزير الاقتصاد سليم جنبرت - المفوض الفرنسي غابرييل بيو - الرئيس الحفار - وزير الخارجية فايز الخوري - وزير الداخلية مظهر باشا رسلان


1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق